كثيرا ما يتردد على آذاننا هذا المصطلح الغامض، والذي قد يدفع الكثير منا إلى الشك في دلالاته، فهو ما زال غريبا، بالرغم من انتشاره المثير للدهشة في الآونة الأخيرة، إذ تتراوح مواقف الناس تجاهه بشكل كبير، ولعل ذلك نابع من عدم الوضوح وقلة الوعي، فالمرء عدو ما يجهل. وكما يقول أنتوني روبينز إن أي أمر جديد يمثل حقيقة كاملة لا بد وأن يمر في مراحل ثلاثة: أولها التشكيك فيها ووصف أصحابها بقلة العلم وضحالة الفكر وربما بالسفه والجنون، تليها مرحلة المحاربة والتصدي بشتى الطرق الممكنة، ثم المرحلة الثالثة التي يميل فيها المحافظون إلى التسليم والإقرار بوجود هذه الظاهرة وربما الاقتناع بها بعد أن اتضحت معالمها وتبينت لهم آثارها وخفاياها التي أثارت مخاوفهم من قبل. ولهذا فإنا سنسعى في هذه المقالة إلى إسقاط الضوء على أسرار هذا المصطلح، ومحاولة كشف مكنوناته، بهدف الوصول إلى قرار موضوعي للحكم عليه دون تسرع أو تعسف.
إن مصطلح البرمجة اللغوية العصبية ليس في الحقيقة إلا ترجمة حرفية لأصله الإنجليزيneuro linguistic programming والذي يرمز له اختصارا NLP, ويمكن ترجمته بعبارة البرمجة اللغوية للجهاز العصبي، كما يميل بعض المختصين العرب إلى تسميته بالهندسة النفسية.
ويقصد به إعادة تشكيل الصور والمعارف التي يتلقاها العقل من الخارج بشكل مبرمج ومهندَس (البرمجة)، بهدف الوصول إلى لغة متقنة في التواصل مع الآخرين والتعامل معهم بالشكل الأمثل (اللغوية)، وذلك عبر التأثير على الجهاز العصبي الذي يكوّن الوعاء الذهني للمعرفة (العصبية).
وبلغة أخرى فإن مهمة هذا الفن إعادة برمجة العقل البشري بشكل مدروس، لتنمية قدرته على التعامل مع الآخرين بشكل أفضل، ومنحه الوسائل العملية والعلمية الفعالة للتصرف بشكل صحيح مع كافة المواقف والظروف اليومية. وهو أشبه بعملية البرمجة التي يقوم بها المختصون لإرشاد الأجهزة التي تحتوي على العقول الآلية إلى الطريقة الأفضل والأقصر للوصول إلى حل المشكلة.
نشأته:
نشأ هذا الفن في منتصف السبعينات على يد العالمين الأمريكيين: الدكتور(جون جرندر) عالم اللغويات و(ريتشارد باندلر) عالم الرياضيات، مستفيدين في ذلك من تجارب قام بها كل من الخبير النفسي (ميلتون إريكسون) والدكتورة (فرجينا ساتير) عبر مراقبة طرقهم العلاجية، بالإضافة إلى عدد من علماء اللغويات مثل نعوم تشومسكي، وألفرد كورزيبسكي وغيرهم. وقد بدأ المؤسسان عملهما بإعادة النظر إلى الطرق العلاجية النفسية، والاهتمام بعوامل تكوين الشخصية البشرية، وإبراز كوامن النجاح والإبداع فيها، انطلاقا من التفاوت الكبير في قدرات ومواهب الأفراد بالرغم من الاتفاق في البيئة والظروف. وقد قاما بنشر أفكارهما في كتاب من جزأين تحت عنوان The Structure of Magic وذلك في عام 1975.
ولم يلبث هذا الفتح العلمي الجديد أن لاقى رواجا واسعا في الغرب، إذ تطورت تقنياته بشكل سريع خلال الثمانينات، وبدأت المعاهد المتخصصة بتقديم هذا الفن للمتدربين. وكأي اكتشاف علمي جديد، ظهرت خلافات عديدة بين مؤسسيه، فافترق باندلر وجرندر عن بعضهما، لينشئ كل منهما مدرسته المستقلة والتي انسحبت مبادئها فيما بعد على الأتباع، حتى أن الخلاف قد لحق بأحد المؤسسَين إلى قعر داره، فافترق باندلر عن زوجته التي ابتكرت لنفسها مبادئها الخاصة. علما بأن الخلاف لم يكن في المنهج العلمي، أو في التطبيقات والتقنيات العملية، وإنما كان نابعا من اختلاف المفاهيم والمنطلقات، فبعض المدربين يركزون على التوجه النفسي الباطني البحت، والبعض الآخر يقتصر اهتمامه على التطبيقات الإدارية والدبلوماسية، فيما يميل آخرون إلى التخصص السلوكي الاجتماعي العام. وأمام رغبة كل منهم في التفرد فيه برؤيته الخاصة، لا بد وأن تتشعب الآراء وتتفرق المدارس، وهو خلاف محمود في الأوساط العلمية كما هو معروف.
ولكننا لا ننسى الإشارة إلى وجود عدد من المدربين الذين أساءوا استغلال هذا الفن، عندما وجدوا فيه ضالتهم لإغواء الناس وسلب ما في جيوبهم، فأصبح الأمر وكأنه سباق لإثبات جدارة هذا الشخص أو ذاك على حساب الآخر، بل وتبادل البعض التهم في حق زملائهم، ليصل الأمر إلى حد التجريح وسوء الظن، مما دعا كلا من (وايت وود سمول) و (روبرت دلتس ) - وهما من كبار خبراء هذا الفن- إلى انتقاد هذا التنافس غير السوي والذي يتنافى مع أصول المهنة، إذ يفترض أن تكون مدرسة حقيقية للأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين.